سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم: البنوّة شاذ كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء. وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة:
قالت بنو عامر خالو بني أسد *** يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام
وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد:
أبينوها الأصاغر خلتي ***
وهو شاذ أيضاً.
إسرائيل: اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني، فيكون مثل: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، قاله ابن عباس. وقيل: معنى إسرا: صفوة، وايل: الله تعالى، فمعناه: صفوة الله. روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وقال بعضهم: إسرا مشتق من الأسر، وهو الشد، فكأن إسرائيل معناه: الذي شدّه الله وأتقن خلقه. وقيل: أسري بالليل مهاجراً إلى الله تعالى فسمي بذلك. وقيل: أسر جنياً كان يطفئ سرج بيت المقدس، وكان اسم الجني: إيل، فسمي إسرائيل، وكان يخدم بيت المقدس، وكان أول من يدخل، وآخر من يخرج، قاله كعب. وقيل: أسرى بالليل هارباً من أخيه عيصو إلى خاله، في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه. وهذه أقاويل ضعاف، وفيه تصرفات للعرب بقوله: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها، وهي قراءة الجمهور. وإسراييل بياءين بعد الألف، وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر. وإسرائل بهمزة بعد الألف ثم لام، وهو مروي عن ورش. وإسراءل بهمزة مفتوحة بعد الراء ولام، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة، واسرال بألف غير ممالة، قال أمية:
لا أرى من يعيشني في حياتي *** غير نفسي إلا بني إسرالا
وهي رواية خارجة عن نافع، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم: وإسرائن بنون بدل اللام، قال الشاعر:
يقول أهل السوء لما جينا *** هذا ورب البيت إسرائينا
كما قالوا: سجيل، وسجين، ورفلّ، ورفنّ، وجبريل، وجبرين، أبدلت بالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا: أصيلال، وإذا جمعته جمع تكسير قلت: أساريل، وحكي: أسارلة وأسارل.
الذكر: بكسر الذال وضمها لغتان بمعنى واحد، وقال الكسائي: يكون باللسان، والذكر بالقلب فبالكسر ضده: الصمت، وبالضم ضده: النسيان، وهو بمعنى التيقظ والتنبه، ويقال: اجعله منك على ذكر. النعمة: اسم للشيء المنعم به، وكثيراً ما يجيء فعل بمعنى المفعول: كالذبح، والنقص، والرعي، والطحن، ومع ذلك لا ينقاس. أوفى، ووفى، ووفى: لغى ثلاث في معنى واحد، وتأتي أوفى بمعنى: ارتفع، قال:
ربما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات
والميفات: مكان مرتفع، وقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفيت بغير ألف، وقال الزجاج: وفي بالعهد، وأوفى به، قال الشاعر:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها
وقال ابن قتيبة: يقال وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل لا غير. وقال أبو الهيثم: وفي الشيء: تم، ووفى الكيل وأوفيته: أتممته، ووفى ريش الطائر: بلغ التمام، ودرهم واف: أي تام كامل. الرهب، والرهب، والرهب، والرهبة: الخوف، مأخوذ من الرهابة، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف. والرهب: النصل، لأنه يرهب منه، والرهبة والخشية والمخافة نظائر. التصديق: اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به، والتكذيب يقابله.
أول: عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن، وققس، وببن، وبابوس. وقيل: إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. وقال بعض الناس: هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفاً، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإن كان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب: مما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها، أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة، والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً، أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو. الثمن: العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة، وقال:
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها *** فما أصبت بترك الحج من ثمن
أي من عوض.
القليل: يقابله الكثير، واتفقا في زنة اسم الفاعل، واختلفا في زنة الفعل، فماضي القليل فعل، وماضي الكثير فعل، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو: شذ يشذ، فهو شاذ، لكن حمل على مقابله. ومثل قلّ فهو قليل، صح فهو صحيح. اللبس: الخلط، تقول العرب: لبست الشيء بالشيء: خلطته، والتبس به: اختلط، وقال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني *** وجاء ألبس بمعنى لبس
وقال آخر:
وكتيبة ألبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي
الكتم، والكتمان: الإخفاء، وضده: الإظهار، ومنه الكتم: ورق يصبغ به الشيب. الركوع: له معنيان في اللغة: أحدهما: التطامن والانحناء، وهذا قول الخليل وأبي زيد، ومنه قول لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت *** أدبّ كأني كلما قمت راكع
والثاني: الذلة والخضوع، وهو قول المفضل والأصمعي، قال الأضبط السعدي:
لا تهين الضعيف علك أن *** تركع يوماً والدهر قد رفعه
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن، إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه، وأن الحامل له على ذلك إبليس. وكانت هاتان الطائفتان: أعني اليهود والنصارى، أهل كتاب، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى. وقد اندرج ذكرهم عموماً في قوله: {يا أيها الناس اعبدوا} فجرد ذكرهم هنا خصوصاً، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلم معهم هنا، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة. وناسب الكلام معهم قصة آدم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله: {يا أيها الناس اعبدوا} {ويا آدم اسكن}
وقد تقدم الإشارة إلى ذلك، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزهم بالإضافة إليه، فكأنه قيل: يا بني عبد الله، أو يا بني صفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطع الله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محموداً، فكيف إذا كان محموداً؟ ألا ترى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} وفي قوله: {يا بني إسرائيل} دليل على أن من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه، وعليه {يا بني آدم} ويسمى ذلك أباً. قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي: أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل. ونقل الجوهري في صحاحه: أن المسيح اسم علم لعيسى، لا اشتقاق له. وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل.
والمراد بقوله: {يا بني إسرائيل اذكروا} من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم}، إلا على ضرب بعيد من التأويل، ولأن من آمن منهم لا يقال له: {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به}، إلا بمجاز بعيد. ويحتمل قوله: اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب: فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى: تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها. وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، أو إدراكهم مدة النبي صلى الله عليه وسلم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: {التي أنعمت عليكم}، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكاً، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. قال ابن عباس: أعطاهم عموداً من النور ليضء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى.
وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو: التوراة والإنجيل والزبور، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالقة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة. وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضاً نعم عليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال: {اذكروني أذكركم} فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وفي قوله: {نعمتي}، نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: {آياتنا} إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح. وأنعمت: صلة التي، والعائد محذوف، التقدير: أنعمتها عليكم.
{وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}. العهد: تقدم تفسيره لغة في قوله: {الذين ينقضون عهد الله} ويحتمل العهد أن يكون مضافاً إلى المعاهد وإلى المعاهد. وفي تفسير هذين العهدين أقوال: أحدها: الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة. الثاني: ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس. الثالث: ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. الرابع: أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها. الخامس: ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر. السادس: إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم. السابع: مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك. الثامن: إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر. التاسع: {خذوا ما آتيناكم بقوة}، قاله الحسن. العاشر: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا يكتمونه} الحادي عشر: الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات. الثاني عشر: الإيمان به وطاعته، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات. الثالث عشر: حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر. الرابع عشر: عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل: إني باعث من بني إسرائيل نبياً فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، قاله الكلبي. الخامس عشر: شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية. السادس عشر: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي، قاله الثوري. السابع عشر: لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، قاله إسماعيل بن زياد.
الثامن عشر: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا} الآية، قاله ابن جريج، وعهدهم إدخالهم الجنة. التاسع عشر: أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، قاله الجمهور. العشرون: أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات، قاله أبو عثمان. الحادي والعشرون: أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهراً وباطناً أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري. الثاني والعشرون: عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة، قاله القشيري. الثالث والعشرون: أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق. الرابع والعشرون: أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم. فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين.
والذي يظهر، والله أعلم، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهداً على سبيل المقابلة، أو إبرازاً لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداًً} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن له عهداً عند الله أن يدخله الجنة» وقرأ الزهري: أوف بعهدكم مشدّداً. ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقاً للمجرّد. فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف، وكأنه قيل: أبالغ في إيفائكم، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل، كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيداً يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضرب زيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيداً يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيداً، إن تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.
{وإياي فارهبون}. إياي: منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين.
ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل، قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير، وإياك نعبد، جملة واحدة، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل. وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك. والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدّر، والتقدير: تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت: كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيداً فاضرب، انتهى. ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى: {بل الله فاعبد} وقال الشاعر:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ***
قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيداً فاضرب، تنبه: فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيداً. فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير وإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان: الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، والمعنى: ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا قول ابن عباس. وقيل معنى فارهبون: أن لا تنقضوا عهدي، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل، مثل قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا. وقيل: الخوف خوفان، خوف العقاب، وهو نصيب أهل الظاهر، ويزول، وخوف جلال، وهو نصيب أهل القلب، ولا يزول. وقال السلمي: الرهبة: خشية القلب من رديء خواطره. وقال سهل: {وإياي فارهبون}، موضع اليقين بمعرفته، {وإياي فاتقون}، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج. وقال القشيري: أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد.
{وآمنوا بما أنزلت}: ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، لأن المأمورين قبل هم، وهذا معطوف على ما قبله، فظاهره اتحاد المأمور. وقيل: أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، علماء اليهود ورؤسائهم، والظاهر الأول، ويندرج فيه كعب ومن معه. وما في قوله: {بما أنزلت} موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة، والذي أنزل تعالى هو القرآن، والذي معهم هو التوراة والإنجيل. وقال قتادة: المراد {بما أنزلت}: من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. {مصدّقاً}. وعلى القول الأول يكون {لما معكم} من تمام {مصدقاً}، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى: {فعال لما يريد} وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: {لما معكم}. ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول. والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضاً.
{ولا تكونوا أوّل كافر به}: أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور.
وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم *** وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره: عندهم أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر، أو أول حزب كفر، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر. والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانياً أو آخراً، فمفهوم الصفة هنا غير مراد. ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة، والتقدير: ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف جداً. وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره: ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداء بها، وهذا شبيه بقول الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم *** عاجل الفحش ولا سوء جزع
لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً، بل أراد لافحش عندهم، لا عاجلاً، ولا آجلاً، وتأوله بعضهم على حذف مضاف، أي: ولا تكونوا مثل أول كافر به، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له، وبعضهم على صفة محذوفة، أي أول كافر به من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى، التقدير: ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة، لأن كفر قريش كان مع الجهل، وهذا القول شبيه بالذي قبله. وبعضهم قدر صلة غير هذه، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه. وقيل: ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس، قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}
وقال القشيري: لا تسنوا الكفر سنة، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون. والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت، وهو القرآن، قاله ابن جريج، أو على محمد صلى الله عليه وسلم، ودل عليه المعنى، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه، قاله أبو العالية، أو على النعمة على معنى الإحسان، ولذلك ذكر الضمير، قاله الزجاج، أو على الموصول في لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه، فقد كفروا به، والأرجح الأول، لأنه أقرب، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه، بخلاف الأقوال الثلاثة.
{ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً}. الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال، كما قال:
كما اشترى المسلم إذ تنصرا ***
وقال آخر:
فإني شريت الحلم بعدك بالجهل ***
ولما كان المعنى على الاستبدال، جاز أن تدخل الباء على الآيات، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل، وما دخلت عليه الباء هو الزائل، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك: بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه: أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم، والمعنى، والله أعلم: ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة. ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى، إذ كان يصير المعنى: أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات. قال المهدوي: ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كلّ ما لا عين فيه، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن، قاله الفراء. انتهى كلام المهدوي ومعناه: أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن، فلا تدخل عليه الباء، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء، ونفس الآيات لا يشترى بها، فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل تقديره: بتعليم آياتي، قاله أبو العالية، وقيل: بتغيير آياتي، قاله الحسن. وقيل: بكتمان آياتي، قاله السدي. وقيل: لا يحتاج إلى حذف مضاف، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي.
وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات، ما أنزل من الكتب، أو القرآن، أو ما أوضح من الحجج والبراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله: ثمناً قليلاً. فمن قال: إن المضاف هو التعليم، قال: الثمن القليل هو الأجرة على التعليم، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم، أو الراتب المرصد لهم على التعليم، فنهوا عنه، ومن قال: هو التغيير، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه، ووصف الثمن بالقليل، لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً، وإن بلغ ما بلغ، كما قال تعالى: {قل متاع الدنيا قليل} فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات، إذ لا يكون إلا قليلاً. ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره: ثمناً قليلاً ولا كثيراً، فحذف لدلالة المعنى عليه. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم. وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا نأخذ على كتاب الله أجراً، فقال: «إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله». وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة، لكون ذلك عبادة بدنية، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية، وقد مرّ تفسيرها.
{وإيّاي فاتقون}: الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله: {وإيّاي فارهبون}، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة. قال صاحب المنتخب: والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهى كلامه. ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا: أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك: {فارهبون}، وقيل في هذا: {فاتقون}، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتَّقون بشيء، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً، فكان المعنى: ارهبون، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي، واتقون، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً.
{ولا تلبسوا الحق بالباطل}: أي الصدق بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الدجال.
وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال: كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
{وتكتموا الحق}: مجزوم عطفاً على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم.
وقرأ عبد الله: {وتكتمون الحق}، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري: كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ. والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والسدّي، ومقاتل، أو الإسلام، قاله الحسن، أو يكون الحق عامًّا فيندرج فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وما جاء به صلى الله عليه وسلم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه.
{وأنتم تعلمون} جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً، إذ المقصود: وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل، وقد قدروا حذفه حذف اختصار، وفيه أقاويل ستة: أحدها: وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى الله عليه وسلم.
الثاني: وأنتم تعلمون البعث والجزاء. الثالث: وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع: وأنتم تعلمون الحق من الباطل. وقال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين، قال: وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى. فكان ما قدّره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى. ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه، لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً، وإنما فائدتها: أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري: لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، {ولا تلبسوا الحق بالباطل}، تدليس، {وتكتمو الحق} تلبيس، {وأنتم تعلمون} أن حق الحق تقديس، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه. {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}: تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله: {ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة}، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل: هي الصلاة المفروضة، وقيل: جنس الصلاة والزكاة.
قيل: أراد المفروضة، وقيل: صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري: وأقيموا الصلاة: احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم، قال قائلهم:
كلّ شيء له زكاة تؤدّى *** وزكاة الجمال رحمة مثلي
{واركعوا مع الراكعين}: خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع: الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به: الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجاً في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسليمن. وقيل: كنى بالركوع عن الصلاة: أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون: قيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقيل: أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً ترتيب عجيب، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أوّلاً بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص، وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدّق لما معهم، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف. ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، فكان الأمر بالإيمان أمراً بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركاً للإضلال. ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين: إما تمويه الباطل حقاً إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية. ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين.
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية. وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.


الأمر: طلب إيجاد الفعل، ويطلق على الشأن، والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيداً وإتمامه قليل، أومر زيداً، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها. البر: الصلة، وأيضاً: الطاعة. قال الراجز:
لا همّ ربّ إن بكراً دونكا *** يبرك الناس ويفخر ونكا
والبر: الفؤاد، وولد الثعلب والهرّ، وبرّ والده: أجله وأعظمه. يبره: على وزن فعل يفعل، ورجل بارّ، وبرّ، وبرت يمينه، وبرّ حجه: أجلها وجمع أنواعاً من الخير، والبر سعة المعروف والخير، ومنه: البر والبريّة للسعة. ويتناول كل خير، والإبرار: الغلبة، قال الشاعر:
ويبرّون على الآبي المبر ***
النسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم، ويطلق أيضاً على الترك، وضده الفعل، والفعل: نسي ينسى على فعل يفعل، ويتعدّى لواحد، وقد يعلق نسي حملاً على علم، قال الشاعر:
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم *** وريحكم من أي ريح الأعاصر
وفي البيت احتمال: التلاوة: القراءة، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر. والتلو: التبع، وناقة مثل: يتبعها ولدها. العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير، يمنعه من التصرف، والمعقل: مكان يمتنع فيه، والعقل: الدّية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل: ثوب موشى، قال الشاعر:
عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه *** كأنه من دم الأجواف مدموم
والعقال: زكاة العام، قال الشاعر:
سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً *** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
ورمل عقنقل: متماسك عن الانهيار. الصبر: حبس النفس على المكروه، والفعل: صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ. الكبيرة: من كبر يكبر، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر، ويقال: كبر عليّ كذا، أي شق، وكبر يكبر، فهو كبير من السنّ. قال الشاعر:
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
الخشوع: قريب من الخضوع، وأصله: اللين والسهولة، وقيل: الاستكانة والتذلل. وقال الليث: الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت، والخشعة: الرّملة المتطامنة. وفي الحديث: «كانت الكعبة خشعة على الماء» الظنّ: ترجيح أحد الجانبين، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك، وقد يطلق على التيقن.
وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد، قال الفراء: الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك.
{أتأمرون الناس بالبرّ} الهمزة: للاستفهام وضعاً، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى: الإنكار، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير، ويترك نفسه ونظيره في النهي، قول أبي الأسود:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
وقول الآخر:
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البر هنا أقوال: الثبات على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته. وروي عن قتادة وابن جريج والسّدي: أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهم لا يصدّقون، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما. وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري: أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟ وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظاً من هذا المعنى. وأتى بالمضارع في: أتأمرون، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع: الديمومة وكثرة التلبس بالفعل، نحو قولهم: زيد يعطي ويمنع، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة.
{وتنسون}: معطوف على تأمرون، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية، وترك فعله حتى صار نسياً منسياً بالنسبة إليهم. {أنفسكم}، والأنفس هنا: ذواتهم، وقيل: جماعتهم وأهل ملتهم، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله: {وأنتم تتلون الكتاب}: أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى: {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله: {وأنتم}، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسماً مفرداً. والكتاب هنا: التوراة والإنجيل، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم، وهذا قول الجمهور. وقيل: الكتاب هنا القرآن، قالوا: ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين، ويكون ذلك من تلوين الخطاب، مثل قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك} وفي هذا القول بعد، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.
{أفلا تعقلون}: مذهب سيبويه والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل {أو لم يسيروا} أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل.
وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف، ونبههم بقوله: {أفلا تعقلون}، على ن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس على شيء سواه بخزان
فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجاً عن أفعال العقلاء، خصوصاً في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله: {أفلا تعقلون} بأقوال: أفلا تعقلون: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلا ترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلا تمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية {لم تقولون ما لا تفعلون} الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة، وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سبباً للرغبة في المعصية، لأنه يقال: لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا:
مواعظ الواعظ لن تقبلا *** حتى يعيها قلبه أولاً
وقال عليّ كرم الله وجهه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون}، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، قالوا: التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطاباً لبني إسرائيل، فهو عام من حيث المعنى. وعن محمد بن واسع: بلغني أن ناساً من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها.
{واستعينوا بالصبر والصلاة}: تقدم ذكر معاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى: {وإياك نستعين} وأن من تلك المعاني الطلب، وأن استعان معناه طلب المعونة، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة. وقال مجاهد: الصبر: الصوم، والصوم: صبر، لأنه إمساك عن الطعام، وسمي رمضان: شهر الصبر. والصلاة: هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل، قاله مجاهد. وقيل: الصلاة الدعاء وقد أضمر، والصبر صلة تقيده، فقيل: بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل، أو على أداء الفرائض، روي ذلك عن ابن عباس، أو عن المعاصي، أو على ترك الرياسة، أو على الطاعات وعن الشهوات، أو على حوائجكم إلى الله، أو على الصلاة. ولما قدر هذا التقدير، أعني بالصبر على الصلاة، توهم بعض من تكلم على القرآن، أن الواو التي في الصلاة هنا بمعنى على، وإنما يريد قائل هذا: أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة، لأن الواو بمعنى على، ويكون ينظر إلى قوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} وأمروا بالاستعانة بالصلاة، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب، أو لما فيها من إزالة الهموم، ومنه الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه، فقام يصلي، وتلا: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وكل هذه الوجوه ذكروها. وقدم الصبر على الصلاة، قيل: لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفها واعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحق بالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه أمور عظيمة، فكانت البداءة بالصبر لذلك.
ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة، وبها يتميز المسلم من الشرك، أتبع الصبر بها، إذ يحصل بها الاشتغال عن الدنيا، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد، والمواعظ والآداب، ومصير الخلق إلى دار الجزاء، فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال: إنه خطاب للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال: ولا يبعد أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.
{وإنها لكبيرة}: الضمير عائد على الصلاة. هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية: أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل: يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: {واستعينوا}، فيكون مثل {اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي العدل أقرب، قاله البجلي. وقيل: يعود على إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قاله الأخفش. وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل: يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله: {اذكروا نعمتي} إلى {واستيعنوا}. وقيل: المعنى على التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال: وإنهما كقوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} في بعض التأويلات، وكقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}، وقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا ***
فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه وأظهرها ما بدأنا به أولاً، قال مؤرج في عود الضمير: لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى: {انفضّوا إليها}، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة: ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى: {كبر على المشركين ما تدعون إليه} أي شق ذلك وثقل.
{إلا على الخاشعين}: استثناء مفرغ، لأن المعنى: وإنها لكبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين، وهم المتواضعون المستكينون، وإنما لم تشق على الخاشعين، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلون بها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب.
فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادة الأبدية، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعاً. ويجوز في {الذين} الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها. و{يظنون} معناه: يوقنون، قاله الجمهور، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون. وقيل معناه: الحسبان، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى، وهو ما قدّروه من الحذف، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين، والصحيح هو الأول، ومثله {إني ظننت أني ملاق حسابيه} فظنوا أنهم مواقعوها. وقال دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في السائريّ المسرّد
قال ابن عطية: قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس. لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر: أظن هذا إنساناً، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس، انتهى. والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وأنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه: أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت: ظننت أن زيداً قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.
{أنهم ملاقوا ربهم}، الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقي، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من حيث إن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية: وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك.
وقوله: بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب: عاقبت اللص، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه، وإضافته إلى الرب، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يربه، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب. وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم، فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها، وقد جاءت بها السنة المتواترة، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين، وقيل ذلك على حذف مضاف، أي جزاء ربهم، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله، ومنه قول الشاعر:
غداً نلقى الأحبة *** محمداً وصحبه
وكنى بالملاقاة عن الموت، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت، فهو من إطلاق المسبب، والمراد منه السبب، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء، وهو الثواب، أي ثواب ربهم. فعلى هذا القول، والقول الأول، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح، وعلى تقدير الجزاء، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل، يكون الظن يراد به التيقن. وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه} والمنافق لا يرى ربه {واعلموا أنكم ملاقوه} ويتناول الكافر والمؤمن؟ وفي الحديث: «لقي الله وهو عليه غضبان» إلى غير ذلك مما ذكروه. وقد تكلم على ذلك أصحابنا. ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين.
{وأنهم إليه راجعون}: اختلف في الضمير في إليه على من يعود، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب، وأن المعنى: وأنهم إلى ربهم راجعون، وهو أقرب ملفوظ به. وقيل: يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم. وقيل: يعود على الموت. وقيل: على الإعادة، وكلاهما يدل عليه ملاقوا. وقد تقدم شرح الرجوع، فأغنى عن إعادته هنا. وقيل: بالقول الأول، وهو أن الضمير يعود على الرب، فلا يتحقق الرجوع، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف، التقدير: إلى أمر ربهم راجعون. وقيل: المعنى بالرجوع: الموت. وقيل: راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية. وقيل: راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضراً ولا نفعاً لغيره، كما كانوا في بدء الخلق. وقيل: راجعون، فيجزيهم بأعمالهم، وليس في قوله: وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات. قالوا: لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده.


الفضل: الزيادة، واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين:
وجدنا نهشلاً فضلت فقيما *** كفضل ابن المخاض على الفصيل
وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح. الجزاء: القضاء عن المفضل والمكافأة، قال الراجز:
يجزيه رب العرش عني إذ جزى *** جنات عدن في العلاليّ العلا
والإجزاء: الإغناء. قبول الشيء: التوجه إليه، والفعل قبل يقبل، والقبل: ما واجهك، قال القطامي:
فقلت للركب لما أن علا بهم *** من عن يمين الحبيا نظرة قبل
الشفاعة: ضم غيره إلى وسيلته، والشفعة: ضم الملك، الشفع: الزوج، والشفاعة منه، لأن الشفاعة والمشفوع له: شفع، وقال الأحوص:
كان من لامني لأصرمها *** كانوا لليلى بلومهم شفعوا
وناقة شفوع: خلفها ولد. وقيل: خلفها ولد، وفي بطنها ولد. الأخذ: ضد الترك، والأخذ: القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير: أخيذ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، وقلّ الإتمام. العدل: الفداء، والعدل: ما يساويه قيمة وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين: المساوي في الجنس والجرم. ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية، وواحد الأعدال بالكسر لا غير، والعدل: المقبول القول من الناس، وحكي فيه أيضاً كسر العين. وقال ثعلب: العدل: الكفيل والرشوة، قال الشاعر:
لا يقبل الصرف فيها نهاب العدلا ***
النصر: العون، أرض منصورة: ممدودة بالمطر، قال الشاعر:
أبوك الذي أجدى علي بنصره *** وأمسك عني بعده كل قاتل
وقال الآخر:
إذا ودّع الشهر الحرام فودعي *** بلاد تميم وانصري أرض عامر
والنصر: العطاء، والانتصار: الانتقام. النجاة: التنجية من الهلكة بعد الوقوع فيها، والأصل: الإلقاء بنجوة، قال الشاعر:
ألم تر للنعمان كان بنجوة *** من الشر لو أن امرأ كان ناجيا
الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عن العرب، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلاً بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً، فلا يقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر:
نحن آل اللَّه في بلدتنا *** لم نزل آلا على عهد ارم
قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد صلى الله عليه وسلم، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر:
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك ***
وقال هدبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي *** وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً، كما جمع أهل فقالوا: آلون. والآل: السراب، يجمع على أفعال، قالوا: أأوال، والآل: عمود الخيمة، والآل: الشخص، والآلة: الحالة الشديدة. فرعون: لا ينصرف للعلمية والعجمة، وسيأتي الكلام عليه. سامه: كلفه العمل الشاق، قال الشاعر:
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه: يعلمونكم من السيماء، وهي العلامة، ومنه: تسويم الخيل. وقيل: يطالبونكم من مساومة البيع. وقيل: يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرّعي، وقال أبو عبيدة: يولونكم، يقال سامه خطة خسف: أي أولاه إياها. السوء: مصدر أساء، يقال: ساء يسوء، وهو متعد، وأساء الرجل: أي صار ذا سوء، قال الشاعر:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة *** لقد سرّني أني خطرت ببالك
ومعنى ساءه: أحزنه، هذا أصله، ثم يستعمل في كل ما يستقبح، ويقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل: يراد قبحهما. الذبح: أصله الشق، قال الشاعر:
كأن بين فكها والفك *** فأرة مسك ذبحت في سك
وقال:
كأنما الصاب في عينيك مذبوح ***
والذبحة: داء في الحلق، يقال منه: ذبحه يذبحه ذبحاً، والذبح: المذبوح. الاستحياء: هنا الإبقاء حياً، واستفعل فيه بمعنى أفعل: استحياه وأحياه بمعنى واحد، نحو قولهم: أبل واستبل، أو طلب الحياء، وهو الفرج، فيكون استفعل هنا للطلب، نحو: استغفر، أي تطلب الغفران. وقد تقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً} النساء: اسم يقع للصغار والكبار، وهو جمع تكسير لنسوة، ونسوة على وزن فعلة، وهو جمع قلة، خلافاً لابن السرّاج، إذ زعم أن فعلة اسم جمع لا جمع تكسير، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه. والواحدة: امرأة. البلاء: الاختبار، بلاه يبلوه بلاء: اختبره، ثم صار يطلق على المكروه والشدة، يقال: أصاب فلاناً بلاء: أي شدة، وهو راجع لمعنى البلى، كأن المبتلى يؤول حاله إلى البلى، وهو الهلاك والفناء.
ويقال: أبلاه بالنعمة، وبلاه بالشدة. وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال: بلاه بالخير، وأبلاه بالشر، قال الشاعر:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم *** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فاستعملهما بمعنى واحد، ويبنى منه افتعل فيقال: ابتلى.
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}: تقدم الكلام في شرح هذا، وأعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم، وتفصيلها نعمة نعمة، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم. {وأني فضلتكم}: ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر:
أكر عليهم دعلجاً ولبانه *** إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما
دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه: صدره، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له. {على العالمين}: أي عالمي زمانهم، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم، أو على كل العالمين، بما جعل فيهم من الأنبياء، وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وذلك خاصة لهم دون غيرهم. فيكون عاماً والنعمة مخصوصة. قالوا: ويدفع هذا القول: {كنتم خير أمة} أو على الجم الغفير من الناس، يقال: رأيت عالماً من الناس، يراد به الكثرة. وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة، لأن من قال بالعموم خص النعمة، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهر. وقال القشيري: أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: {وأني فضلتكم على العالمين}، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} فشتان بين من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه. فالأول يقتضي الثناء، والثاني يقتضي الإعجاب، انتهى. وآخره ملخص من كلامه..
{واتقوا يوماً} أمر بالاتقاء، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلاً للتقوى. فأمروا بالإدامة على التقوى، أو بتحصيل التقوى، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوماً، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره: اتقوا العذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوا متقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف.
قال القشيري: العوام خوفهم بعذابه، فقال: {واتقوا يوماً}، {واتقوا النار} والخواص خوفهم بصفاته، فقال: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} وما تكون في شأن الآية. وخواص الخواص خوفهم بنفسه، فقال: {ويحذركم الله نفسه} وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي أغني، وقيل جزا، واجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً. وهذا اختيار أبي عليّ، وإياه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال الكسائي: لا يكون المحذوف إلا لهاء، قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله:
فما أدري أغيرهم تناء *** وطول العهد أم مال أصابوا
يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر:
رحم الله أعظما دفنوها *** بسجستان طلحة الطلحات
في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب: يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية: يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون علم الكبيرة سنه، فحذف الثاني اعتماداً على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في: يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب. ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على {لا تجزي}، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط.
{نفس عن نفس شيئاً} كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم. ومعنى التنكير: أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئاً من الأشياء، قال الزمخشري: وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع، وهذا على مذهبه في أن لا شفاعة. وقال بعضهم: التقدير عن نفس كافرة، فقيدها بالكفر، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عن نفس مؤمنة، وذلك بمفهوم الصفة. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله: {ولا يقبل منها شفاعة}. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزي نسمة عن نسمة، وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به، أي لا يقضي شيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئاً من الضرب..
{ولا يقبل منها شفاعة}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتاء، وهو القياس والأكثر، ومن قرأ بالياء فهو أيضاً جاز فصيح لمجاز التأنيث، وحسنة أيضاً الفصل بين الفعل ومرفوعه. وقرأ سفيان: ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: {اذكروا نعمتي} و{إني فضلتكم}، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم، وإن كان يعلم أن الذي لا يقبل هو الله تعالى. والضمير في منها عائد على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور، أي لا يقبل من النفس المستشفعة شفاعة شافع، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزي عن نفس شيئاً شفاعة، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى، لأنها هي المحدث عنها في قوله: {لا تجزي نفس عن نفس}، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة. وظاهر قوله: {ولا يقبل منها شفاعة} نفي القبول ووجود الشفاعة، ويجوز أن يكون من باب:
على لا حب لا يهتدى بمناره..... نفي القبول، والمقصود نفي الشفاعة، كأنه قيل: لا شفاعة، فتقبل. وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال: الأول: أنه لفظ عام لمعنى خاص، والمراد: الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله، وأبناء أنبيائه، وأنهم يشفعون لنا عند الله، فرد عليهم ذلك، وأويسوا منه لكفرهم، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة، والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه شفاعة لقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} الثاني: معناه لا يجدون شفيعاً تقبل شفاعته، لعجز المشفوع فيه عنه، وهو قول الحسن. الثالث: معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة، وإن كان لو شفع لشفع. الرابع: معناه حيث لم يأذن الله في الشفاعة للكفار، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} الخامس: معناه ليس لها شفاعة، فيكون لها قبول، وقد تقدم هذا القول. السادس: أنه نفي عام، أي لا يقبل في غيرها، لا مؤمنة ولا كافرة، في مؤمنة ولا كافرة، قاله الزمخشري.
وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين، خلافاً للمعتزلة، قالوا: الكبيرة تخلد صاحبها في النار، وأنكروا الشفاعة، وهم على ضربين: طائفة أنكرت الشفاعة إنكاراً كلياً وقالوا: لا تقبل شفاعة أحد في أحد، واستدلوا بظواهر آيات، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة. وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر، قالوا: وإنما تقبل في الصغائر. وقال في المنتخب: أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم شفاعة في الآخرة، واختلفوا لمن تكون. فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه. وقال أصحابنا: تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين، إما بأن لا يدخلوا النار، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة، واتفقوا على أنها ليست للكفار، ثم ذكر نحواً من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين، ورد بعضهم على بعض، يوقف عليها في ذلك الكتاب.
{ولا يؤخذ منها عدل} العدل: الفدية، قاله ابن عباس وأبو العالية، وسميت عدلاً لأن المفدى يعدل بها: أي يساويها، أو البدل: أي رجل مكان رجل. وروي عن ابن عباس: أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال. {ولا هم ينصرون}: أتى بالضمير مجموعاً على معنى نفس، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، كقوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} وأتى به مذكراً لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم: ثلاثة أنفس، وجعل حرف النفي منسحباً على جملة اسمية ليكون الضمير مذكوراً مرتين، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخر فاصلة، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر، إذ كان يفوت التناسب. ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني: وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية.
والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل، كقوله: لا تجزي.
ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً، قال: لأن التثنية جمع قالوا، وفي معنى النصر للمفسرين هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه لا يمنعون من عذاب الله. الثاني: لا يجدون ناصراً ينصرهم ولا شافعاً يشفع لهم. الثالث: لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم. وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملة لنفي المستقبل في الأكثر، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة، لأن هذا اليوم لم يقع بعد. وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة، وهي على حسب الواقع في الدنيا، لأن المأخوذ بحق، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه، أو لا يشفع فيه فيفدى، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه.
فهذه مراتب يتلو بعضها بعضاً. فلهذا، والله أعلم، جاءت مترتبة في الذكر هكذا. ولما كان الأمر مختلفاً عند الناس في الشفاعة والفدية، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة، جاءت هذه الجمل هنا مقدماً فيها الشفاعة، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين. وبدئ هنا بالشفاعة، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس، وجاء هنا بلفظ القبول، وهناك بلفظ النفع، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء، وانتفاء ما يترتب عليه. وبدئ هنا بالقبول، لأنه أصل للشيء المترتب عليه، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجوداً، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجوداً.
{وإذ نجيناكم من آل فرعون}: تقدم الكلام على إذ في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل} ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا إن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي: {واتقوا يوماً}. وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه. وخرج بقوله: أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله: {نعمتي التي أنعمت}، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم، هو من أعظم، أو أعظم النعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه.
وقرئ: أنجيناكم، والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هذه القراءة للنخعي. وذكر بعضهم أنه قرأ: أنجيتكم، فيكون الضمير موافقاً للضمير في نعمتي، والمعنى: خلصتكم من آل فرعون، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة، وإن كان أمرهم بذلك فرعون، وآل فرعون هنا أهل مصر، قاله مقاتل، أو أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيد، أو أتباعه على ذنبه، قاله الزجاج، ومنه: {وأغرقنا آل فرعون} وهم أتباعه على ذنبه، إذ لم يكن له أب، ولا بنت، ولا ابن، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من آلك؟ فقال: «كل تقي». ويؤيد القول الثاني: لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد. والمراد بالآل هنا: آل عقيل، وآل عباس، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم. وورد أيضاً أن آله: أزواجه وذريته، فدل على أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم آل عام وآل خاص.
وفرعون: علم لمن ملك العمالقة، كما قيل: قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبع لمن ملك اليمن. وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وقد اشتق منه: تفرعن الرجل، إذا تجبر وعتا، واسمه الوليد بن مصعب، قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين، أو فنطوس، قاله مقاتل، أو مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير، أو مغيث، ذكره بعض المفسرين، أو قابوس، وكنيته أبو مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح. وروي أنه من أهل اصطخر، ورد إلى مصر فصار بها ملكاً، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، قاله المسعودي. وقال ابن وهب: فرعون موسى هو فرعون يوسف، قالوا: وهذا غير صحيح، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. والصحيح أنه غيره. وقيل: كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد..
{يسومونكم}: يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون. {وسوء العذاب}: أشقه وأصعبه وانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً ثانياً لسام، أي يكلفونكم، أو يولونكم سوء العذاب، أو بمعنى: الإرسال، أو الإدامة، أو التصريف، أي: يرسلونكم، أو يديمونكم، أو يصرفونكم في الأعمال الشاقة، أو بمعن الرفع، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب، أو الوسم، أي: يعلمونكم من العلامة، ومعناه: أن الأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم، كالحدادة والنجارة، وغير ذلك يكون وسماً لهم، والتقدير: يعلمونكم بسوء العذاب.
وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم، وهذا التضعيف ضعيف لأنه لم يقل إنه مأخوذ من الوسم، وإنما معناه معنى الوسم، وهو من السيمياء، والسيماء مسوّمين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة، وأصول هذا سين وواو وميم، وهي أصول يسومونكم، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله: كدمث، ودمثر، وسبط، وسبطر، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع، أي: يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة.
وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون {سوء العذاب} مفعولاً على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب نصب المصدر، ثم قدره سوماً شديداً. وسوء العذاب: الأعمال القذرة، قاله السدي، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، قاله بعضهم. قال: وكان قومه جنداً ملوكاً، أو الذبح، أو الاستحياء المشار إليهما، قاله الزجاج. ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال: ويذبحون، فدل على أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح. وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة، ومن لا يعمل فالجزية، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم. فمن غربت عليه الشمس قبل أن تؤديها غلت يده إلى عنقه شهراً. والنساء يغزلن الكتان وينسجن. وأصل نشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما السلام.
{يذبحون أبناءهم}: قراءة الجمهور بالتشديد، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهري وابن محيصن: يذبحون خفيفاً من ذبح المجرد اكتفاء بمطلق الفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله: يقتلون بالتشديد مكان يذبحون، والذبح قتل، ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو: قوله تعالى: {يلق أثاماً يضاعف له العذاب} وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال، من ضمير الرفع في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً. وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة، الله أعلم بصحتها، ومعظمها يدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.
والأبناء: الأطفال الذكور، يقال: إنه قتل أربعين ألف صبي. وقيل: أراد بالأبناء: الرّجال، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، والأول أشهر. والنساء هنا: البنات، وسموا نساء باعتبار ما يؤلن إليه، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن، وقيل: أراد: النساء الكبار، والأول أشهر.
{ويستحيون نساءكم}: وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات، وهو أن يكون المعنى: يتركون بناتكم أحياء للخدمة، أو يفتشون أرحام نسائكم. فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من تحمل منهن. وقيل: وكل بذلك القوابل. وقد قيل: إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة، ومعناه أنهم يأتون النساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها، وهو أن يذبح ولد الرجل والمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه، والذبح أشق الآلام. واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب، لكنه يقع العذاب بسببه من جهة إبقائهن خدماً وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء، إن أريد بالنساء الكبار، أو ذبح الإخوة، إن أريد الأطفال، وتعلق العار بهن، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغير حق والمباشر له شريكان في القصاص، فإن الله تعالى أغرق فرعون، وهو الآمر، وآله وهم المباشرون. وهذه مسألة يبحث فيها في علم الفقه، وفيها خلاف بين أهل العلم.
{وفي ذلك بلاء}: هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء، وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك} وهو أقرب مذكور، فيكون المراد بالبلاء: الشدة والمكروه. وقيل: يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده، فيكون معنى البلاء كما تقدم. وقيل: يعود على التنيجة، وهو المصدر المفهوم من قوله: نجيناكم، فيكون البلاء هنا: النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور، وهو أضعف من القول الذي قبله، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول.
وفي قوله: {من ربكم عظيم} دليل على أن الخير والشرّ من الله تعالى، بمعنى أنه خالقهما. وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم: إن الخير من الله والشرّ من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون، فلا يخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم، أو الذبح، والاستحياء، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم، وذبح منهم أربعين ألف صبي. فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيماً هو بالنسبة للمخاطب والسامع، لا بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه يستحيل عليه اتصافه بالاستعظام.
قال القشيري: من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، انتهى. ولم تزل النعم تمحو آثار النقم، قال الشاعر:
نأسوا بأموالنا آثار رائدينا ***
ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق، أمرهم بذكرها ثانية مفصلة، فبدأ منها بالتفضيل، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه، لا بقاض حق، ولا شفيع، ولا فدية، ولا نصر، لمن لم يذكر نعمه، ولم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه، وكان الأمر بالاتقاء مهماً هنا، لأن من أخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدم الاتكال على مجرد التفضيل، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة. ثم ثنى بذكر الإنجاء الذي به كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء. ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله: {اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء. وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم، نعمة نعمة، إن شاء الله تعالى.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9